اجمل اكتب “عن شئ اسمه الحب”، عن شئ اسمه الحب
ان من اجمل الكتب التي يمكن ان تقرأها ولاتنساها ابدا عن شئ اسمه الحب لادهم
الشرقاوي
كتاب عن شيء اسمه الحب – أدهم الشرقاوى – أدهم شرقاوي كاتب شاب فلسطيني الجنسية،
متزوج وله من الأبناء ولد وثلاثة بنات. يعيش في لبنان. حاصل على دبلوم دار معلمين
من الأونيسكو، دبلوم تربية رياضية من الأونيسكو، إجازة في الأدب العربي من الجامعة اللبنانية في
بيروت ، ماجستير في الأدب العربي. ينشر كتاباته تحت اسم مستعار ألا وهو ” قس
بن ساعدة “. من مؤلفاته: – كش ملك – خربشات خارجة عن القانون – حديث
الصباح – عن شيء اسمه الحب – تأملات قصيرة جداً – نبض
كان عاماً من الموت اليومي اشتياقاً ..
وكان صوتها يوقف ذلك الموت , ولكنه حين ينقطع يرجع الشوق ضاريا كما كان ..
كان صوتها زقزقته المفضله , ,حين تهمس له : كم اشتقت اليك , تصبح المسافة
الفاصله بينهما صفراً ..
أهناكَ صوتٌ قادرٌ على اختزالِ المسافاتِ حقاً ؟! … صَوتُها كانَ يفعَل … وكانَ قادراً
على استعبَادِه … أحقاً هناكَ صوتٌ له رائِحة ؟ … تُجمِعُ العلومُ أَنَّ الأَصواتَ كالمَاءِ
لا طعمَ ، ولا لونَ ، ولا رائِحَة … إذاً لمَاذا كانتْ الغرفَةُ تختنقُ برائِحَةِ
اليَاسَمينِ حينَ تنطِقُ بكلمتِها الأُولى المعهُودة : كَم هي مُوحِشَةٌ الأَيامُ بدونِكَ
وكَانَ صوتُه يفتَرِسهَا تمَاماً , وكانتْ تحبُّ أن تكونَ فريسَةَ صوتِه ، فحينَ يأتِي تشعُرُ
بأنَّ أُنوثتَهَا المؤجَّلةَ حانَ وقتُ انطلاقِها … أهنَاكَ صوتٌ قَادرٌ على إخراجِ أُنوثَةِ امرأَةٍ من
قَعرِ زُجَاجَة ؟! … صوتُه كانَ يفعَل … وكانتْ إجاباتُه تحرِقهَا رويداً رويدَاً كعودِ بخُّورٍ
في حفلةِ ذكرٍ صوفِيٍّ ليسَ بحاجَةٍ إلا إلى شَرارةٌ ليحصلَ على شرعيَّةِ الشَّذى ، ولقدْ
كانَ صوتُه شَرارتهَا
– كيفَ حَالكَ ؟ كانتْ تقولُ له
– لم أَشْفَى منكِ بعد
– أَي كتابٍ تقرأ
– عينيكِ
كانَ يعذبهَا بذكاءٍ وكانتْ هي امرأة مازوكية تعشقُ تعذيبَ الذاتِ والآخر فتسأله
– كم صفحةً قرأتَ
– ما زلتُ في الصَّفحةِ الأُولى
– ومتى ستنتقلُ إلى الصَّفحةِ الثَّانيةِ
– حينَ أَعرفُ أَسماءَ الغرقَى هنَا قبلي
– أَنتَ غريقي المُفضَّل
حينهَا كانَ يشعرُ برغبةٍ بوذيةٍ مجنونةٍ بإضرامِ النَّارِ بكلِ رجالِ الأَرضِ فكلُّ من اشتهاهَا ولو
بدونِ علمِها لا يستحقُّ أَنْ يحيَا
هذا ما كانتْ تفعلهُ الأَصواتُ على امتدادِ عامٍ مجنونٍ لمْ يكنْ يستردُّ رشدَه إلا حين
تتعانقُ الحناجِر العطشَى التي كانتْ تزدادُ عطشَاً كلَّما شربتْ من قدحِ البوحِ … وكانَ يقولُ
لهَا أُحبكِ كي يتخلَّصَ من صَدى خطواتِها التي تعملُ على وقعِها كل أَعضَائِه … ولكنَّه
كلَّما قال كشّر الصدى عن أَسنانِه ، وغرزها عميقاً في لحمِ ذاكرتِه ، أَيُّ حُبٍ
مجنونٍ هذا الذي لا تقولُه الكلمَات
وكانتْ تقولُ له أُحبكَ كي تتخلصَ من مخاضِ الحبِّ الذي أَصَابَها يوم قسمتهَا عيناهُ إلى
أَربعِ قطع ! قطعة تتمنى لو أَنَّ الدنيَا كلّها لون عينيهِ … وقطعة تسترجعُ طعمَ
يدهِ حينَ كانتْ تتعانقُ اليدانِ فيمَا يُخيَّل للحضورِ أَنَّها لم تكنْ غيرَ مصافحَة عابرةٍ …
وقطعة ثالثة تقرأُ كلَّ كلماتِه المجنونَةِ التي كان يكتبُها حينَ يخرجُ لتوِّه من حُمى دقيقتينِ
قضاهمَا في عينيهَا … ولم تكنْ تعرفُ هل كلُّ النِّساءِ مثلها أَم أَنَّها المرأَة الوحيدةُ
التي تعشقُ كلماتٍ ولدتْ وماتتْ في عينيهَا … وقطعةٌ رابعةٌ تقسمُ له أَنَّها تحبُه أَكثر
من كلِّ القطعِ الباقيةِ !
كانتْ أَحلى لحظاتِ عمرِه حينَ يرجعُ آخر الليلِ إلى غرفتِه ويخرِجُ صورتَها من بين الورودِ
التي جفَّفها في دفاتِره … لقد كانتْ ورودُها التي أَهدته إيَّاها على مدى لقاءاتٍ متقطعةٍ
… أَيُّ امرأَةٍ كانتْ تلكَ التي يحضُر الوردُ إذْ تحضُر! وكانَ يحفظُ تاريخَ كلِّ وردةٍ
… لونَها … شذاهَا … والكلامَ الذي قِيلَ في حضرةِ كلِّ وردةٍ يعرفه فقد فصَّل
ذاكرتَه على مقياسِ همسِها !
كانَ يؤمِنُ أَنَّ الكلماتِ لا بُدَّ لها من وحيٍ لتنطلقَ ، وأَنَّ الوحي لا يسكنُ
إلاَّ في عيونِ امرأَةٍ خارقةِ الجمالِ مثلها … فكانَ يمسكُ قلمَه ويسلِم نفسَه للوحيِ القادمِ
من عينيهَا وببركاتِ الكُحلِ كانَ يكتبُ لها وعنهَا !
ولقدْ كانتْ حُبلى به … كانتْ متخمةً بصدَى صوتِه …برائحتِه …بذكرياتِه … بكلِّ الكلماتِ التي
قالَها والتي لم يقلْها … وبقُبَلٍ ماتتْ قبلَ أَن تُولد…ما أَجملَ القبلَ التي تموت… إنَّها
لا تندملُ … إنَّها تنبعثُ عندَ أَوَّلِ قطرةِ مطرٍ آتيةٍ من غيمٍ لا منتظر …
القُبَلُ التي يُخيَّلُ أَنَّها ماتتْ هيَ التي ما تلبثُ أَن تسْتشرِسَ وتبتلِعَ الآخر بهمجيةِ ثقب
أَسودٍ لا يشبَع !
وكانت أحلى لحظاتِ عمرها أن تقرأ لهُ … وبعدَ أن تقرأَ للمرةِ الألفِ وتغسلَ الكلماتِ
بدموعِهَا كانتْ تشمُّ رائحةَ أصابعِهِ التي كانت تهتدي إليها بكلِّ حواسِها فقد كانت رائحةٌ يستحيلُ
أنْ تخنقَهَا رائحةُ الحبرِ ! كانت كلماتُهُ جيشاً همجياً مدججاً بالوردِ والنّدى وكان قلبُها مساحةً
مفتوحةً للغزوِ دونَ مقاومةٍ وكانَ يعرفُ كيفَ يجتاحُهَا جيداً …
قبلَ عينيها يظنُّ أنَّ أشهى ما يمكنُ تذوقَهُ صباحاً هو فنجانُ قهوةٍ ، ولكنَّ الساعةَ
السابعةَ والنصفَ من ذلك اليومِ غيرَتْ قناعاتِهِ ، وخربَتْ عليهِ ذوقَهُ ، وصارَ كلُّ نهارٍ
لا يبدأُ برشفةِ تأملٍّ في فنجانِ عينيها هو نهارٌ كئيبٌ … لقد انساه جمالُ عينيْهَا
تقاليدَ صَباحاتِهِ السابقةِ … لمْ يَعُدْ لِفنجانِ قهوتِهِ تقاليدُهُ وطقوسُهُ السابقةُ ! حتَّى حينَ كانَ
يعُدُّ قهوتَهُ كانَ يُضِيفُ القهوةَ الى الماءِ المغليِّ بجنونٍ على قهوتِهِ تُصبحُ سوداءَ كلوْنِ عينيْهَا
… وحينَ كانَ يجلسُ ليرْتشفَهَا كانَ يبحثُ عنْهَا في فِنجانِهِ … ثُمَّ يخرُجُ كالمجنونِ إليْهَا
لِتبارِكَ صباحَهُ … كانَ كلُّ شيْءٍ في داخلِهِ يَقولُ أنَّ حياتَهُ بعْدَ السابعةِ والنّصْفِ لنْ
تعودَ كَمَا كانَتْ قبْلَهَا ولقَدْ صَدقَتْ نبوءَتَه ُ…
وكانَ يتعمَّدُ أنْ ينْسَى أشيَاءَهُ عنْدَهَا لأنَّهُ كانَ بحاجةٍ إلى ذريعةٍ مَا لِيرجِعَ … ولمْ
يَكَنْ قبْلَهَا يعرفُ أنَّ القتيلَ يعشقُ وجهَ قاتلِهِ حتَّى الثّمالةِ … وأنَّ بعضَ القتلَى أغبياءٌ
مثلَهُ وأنَّهمْ بحاجةٍ إلى أنْ يموتُوا ألفَ مرَّةٍ كيْ يقتنعُوا بأنًّهمْ ماتُوا !
لهذا كانَ يختلقُ ذريعةً ما … يتحايلُ على تأشيرةِ عودةٍ إليهَا … تماماً كمَا كانَ
يتكاسلُ ليوناردوا دافنشي في إنهاءِ الموناليزا كيْ يعودَ إليهَا كلَّ صباحٍ لأنَّهُ لمْ يكنْ يجدْ
أشهى منْ موتِهِ الصَّباحيِّ في عينيْهَا
ولقدْ نسِيَ مرَّةً أنْ ينسى أشياءَهُ عنْدهَا فسألتْهُ
– ماذا نسيْتَ هذِهِ المرَّةِ
– نسيْتُ قلبِي
ومضَى ….
فكَّرَ أنْ لا يعودَ إليهَا … أنْ يسامحَها بالجزءِ الآخرِ منْ قلبِهِ … الجزءِ الذي
كانَ يجرُّهُ إليهَا ويلقيهِ في نارِ عينيْهَا بلذَّةِ فراشةٍ تُلقِي بنفسِهَا في وهْجِ المصباحِ فتستعذبُ
حريقَهَا ، وتستمتعُ بالرَّمادِ المتطايِرِ منهَا … هذا الجزءُ لمْ يعدْ يريدُهُ ! يكفيهِ الجزءُ
الآخرُ الأحمقُ الذي ينبضُ باستمرارٍ فيجبِرُ الخلايا الأخرى على الحياةِ كيْ يفكرَ بها ! ولكنَّهُ
حينَ استسلمَ للرُّقادِ هو تلكَ الليلةِ رآها على الضّفّةِ الأخرى منَ الحُلمِ … قالَ لهَا
كلَّ الكلماتِ التي تمنَّى أنْ يقولَها لها ذاتَ يقظةٍ ولكنَّها كانتْ تختنقُ في حنجرتِهِ …
وقرأَ في عينيْها شعراً …
وحينَ استيقظَ صباحاً حاولَ أنْ ينامَ مرَّةً أخرى طمعاً في أنْ يُكملَ قصيدةً قطعَها عليهِ
ذلكَ الملعونُ الذي يسمونَه مُنبهاً … أكانَ يحتاجُ الى منبهٍ حقّاً ؟ إنَّ كلَّ خليةٍ
في جسدِهِ كانتْ ستوقظُهُ كيْ يذهبَ إليهَا ! إذا لماذا تحامقَ ووثِقَ بعقاربَ بلهاءَ لا
تكفُّ عن الحركةِ !؟
أعدَّ قهوتَهُ بتأنٍ رغمَ أنَّ قلبَهُ كانَ يجذبُهُ منْ ياقةِ قميصِهِ كيْ يذهبَ إليها !
وكانَ كلّما أضافَ البنَّ الى الماءِ استرجعَ شيئاً من الكلماتِ التي قتلَتْها يقظةٌ جاءَتْ في
اللّحظةِ الخطأ !
شربَ قهوتَهُ وهو يطالعُ مفكرتَهُ وينتظرُ منها ان تفكِّرَهُ بما يجبُ ان يفعلَهُ هذا النهار
، ولكنَّ المفكراتِ تنسى ايضاً ، فكلُّ ما كان في الصفحةِ عينيها … اسودٌ قاتم
ٌ، ومن بينِ عتمةٍ مكدسةٍ فوقَ عتمةٍ كان الوحيُّ يخرجُ ويقولُ لَهُ : اكتبْ حبيبي
الي ….
أغلقَ مفكرتَهُ ونسيَ ان يشربَ نصفَ فنجانِ القهوةِ الذي ملَّ منَ الانتظارِ وبردَ … اغلقَ
البابَ برفقٍ على غيرِ عادتِهِ ومشى اليها بجنونٍ على عادتِهِ.
قالَ لها : صباحُ الخيرِ ولا يعرفُ من اي جزءٍ من قلبِهِ خرجَتْ ! من
الجزءِ الذي لديهِ أمْ من الجزءِ الذي لديها ! ولكنَّها كانت تعرفُ بحسِّ الانثى حين
يُهاجمُها الحبُّ انَّها خرجَت من الجزءِ الذي بين يديها … من وهجِ المصباحِ
كيف حالُكَ ؟ سألتْهُ
ما زلتِ تسأليني كيف انتَ . لقد تهاويْتُ قطعةً قطعةً فلمْ يبقَ مني الا أنتِ.
حاولتْ ان لا تنظرَ في عينيه فآخِر ما كان ينقصُها انكسارٌ صباحيٌّ ولكنَّ كلمة ًخرجتْ
منهُ خرقتْ جدارَ الصمتِ:
أُحبُّكِ
أَخيراً قالها … وأَخيراً خرجتْ تلكَ الكلمةُ المجنونةُ التي لا تقولُ شيئاً ممّا نُحسُّه ُولكنَّ
الحمقى الذين قبلنا استخدموها فقالَها وتباً لها من كلمةٍ … هو اكثر ُمن يحبُها …
يعشقُها … ومضى
أرادتْ ان تلحقَ بهِ … ان تناديَ عليهِ … ان تقولَ لهُ ايّها المجنونُ خذْني
اليكَ … ولكنَّها كانتْ في تلكَ اللحظةِ كعصفورٍ ذبيحٍ صادرُوا منهُ صوتَه ولكنَّ حدَ السكينِ
ودماءَهُ النازفةَ لمْ تمنعْ جناحيهِ من التحليقِ عالياً !
تسمرَتْ مكانَها حيثُ اختلطَتْ الدماءُ فلمْ يعدْ احدٌ يعرفُ منْ ذبحَ منْ !
ومنذُ تلكَ اللحظةِ أُصيبَتْ بمرضِ الافتقادِ فقد كانتْ تفتقدُهُ حتَّى حينَ تنظرُ اليهِ … كالمجنونةِ
بحثتْ عن شيءٍ تعمَّدَ نسيانَهُ … كانتْ واثقةً من انّهُ سينسى شيئاً هذه المرّةَ لأنها
كانتْ تعرفُ انهُ خلعَ ذاكرتَهُ عندها في اوّلِ نظرةٍ عن قرب … بعضُ عيونُ النساءِ
قادرةٌ على خلعِ ذاكرةِ رجلٍ من مكانِها … على شطبِ اسماءِ النساءِ اللواتي مررْنَ قبلَها
… على تجريدِهِ من كلّ تاريخِهِ العشقيّ والقائِهِ اميّا مكسوراً كبقايا السفنِ الغرقى عندَ شاطىءٍ
اعتادَ بحرُهُ على ابتلاعِ السفنِ ولقدْ كانتْ بعينيها السوداوين منهم !
لقد نسيَ دفترَهُ !
هل نسيَهُ حقاً ام تناساهُ
لمْ تكنْ تهتمُّ فكلُّ ما كان يعنيها انه سيعودُ اليها … سيُسمِعُها تلكَ الكلمةَ مرةً
اخرى … وهذه المرةُ لن تقفَ مكتوفةَ العواطفِ … ستقولُ لهُ بأَنَّ عينيه ليستا اكثرَ
شفقةً من عينيها … وانها ذائبةٌ فيهما كما الملحُ في ماءِ البحرِ … لقد ضاعَ
الحدُّ الفاصلُ بين الماءِ والملحِ … اين يبدأُ الماءُ ؟ اين ينتهي الملحُ ؟ لا
احدَ يعرفُ … ولا احدَ يهتمُّ بان يعرفَ …. الكلُّ يهتمُّ بالتركيبةِ العجيبةِ البحر ولقد
كانتْ غريقتُهُ
وقررتْ الغريقةُ ان تبلعَ من ماءِ البحرِ اكثرَ … قررَتْ ان تقرأَ الدفترَ المنسيَّ ومنذُ
تلكَ اللحظةِ اصيبتْ بمرضِ حروفِهِ … لا شيءَ اشهى من انْ تقرأَ امراةً كلماتٍ كتبتْ
لها وحدَها … كلماتٍ خرجَتْ من مخاضِ عينيها !
تمددَتْ على سريرِها وبيدٍ راعشةٍ لمستْ الدفترَ فكانتْ كمنْ يقتربُ من شيءٍ محرّمٍ … بتأنٍ
فتحتْهُ وعانقتْ عيناها لأوّلِ مرةٍ كلماتِهِ … كانَ قدْ كتبَ في جلدةِ دفترِهِ اهداءً :
الى امرأةٍ تكرهُ كثرةَ الحروفِ حتى في اسمِها ارفعُ هذه الكلماتُ …
انّهُ يكتبُ لها فهيَ من اخبرَهُ يوماً بانها تكرهُ كثرةَ الحروفِ واكثرَ ما يعجبُها في
اسمِها انهُ ليس بالامكانِ اضافةُ حرفٍ ثالثٍ اليهِ
ذهبتْ الى الصفحةِ الاولى بغريزةِ امرأةٍ تريدُ ان تقتلَ كل امرأةٍ تشاركُها اسمَها هو لها
… لها وحدَها
طويلاً انتظرتُكِ هنا
على ضفّةِ القلبِ الاخرى
قلتُ لنفسِي اليومَ يتسعُ الوقتُ
غداً يتسعُ
ولكنّهُ كان يضيقُ
في تلك اللحظةِ كرهتْ كلَّ ساعاتِ العالمِ وكلَّ ما يمكنُ ان يذكرَها بالوقتِ … كرهتْ
القطاراتِ والمحطاتِ وكلَّ الاشياءِ التي لا تعرفُ ان تعيشَ بلا انتظار … ما الذي فعلتْهُ
بهِ وبها
فكرتْ ان تتوقفَ ولكنَّ النساءَ يدفعْنَ اعمارَهنَّ لقراءةِ كلماتٍ كتبَها رجلٌ قبلَ ان يستفيقَ من
غيبوبةٍ ادخلتْهُ بها نظرةٌ !
تسللتْ الى الصفحةِ الاخرى … كانتْ كمنْ يمشي على اطرافِ اصابع … تُرى ما الذي
كانتْ تخافُ ان توقظَهُ … كلماتِهِ امْ انوثتِها !
أتذكرينَ ذاكَ الظرفَ المغلقَ الذي وصلَ الى صُندوقِ بريدكِ مئةَ مرةٍ
خشيتِ ان تفتحيهِ
مئةُ مرة ِ… ولم تتخلي عن حذرِكِ
عن جُبنِكِ ….
لم يساوركِ الفضولُ مرةً
كرهتُ جُبنكِ
لهذا سأعترفُ
لقد كنتُ انا المرسل
اتعلمين ما الرسالة ؟
قلبي …
مرةً اخرى عادَ ليوقظَ الكراهيةَ في صدرِها … كم صارتْ تكرهُ صناديقَ البريدِ … الرسائلَ
المغلقةَ … لماذا لا يصنفون الكلماتِ المفخخةَ بالوردِ والعطرِ والقبلَ التي لا تعرفُ موعدَ انطلاقِ
في صندوقِ بريدٍ مجنونٍ تمنعُ الرسائلَ التافهةَ والرتيبةَ من الدخولِ اليهِ !
تابعتْ خطاها الحذرةَ … على اطرافِ الاصابعِ مرةً اخرى … على اطرافِ القلبِ كانتْ تمشي
… كانتْ تُخفي دقاتِهِ …. تُرى عمنْ كانتْ تُخفي نبضاتِ قلبِها … عن كلماتِهِ كي
لا تشيَ بها امْ عنْ نفسِها … لانَّها كانتْ تعرفُ ان المرأةَ غيرَ الرجلِ …
كانت تعرفُ ان المرأةَ حينَ
تحبُّ تفقدُ القدرةَ على كلِّ شيءٍ الا على الحبِّ … وكانتْ تريدُ الاحتفاظَ بقدرتِها ولكنّهُ
حرفاً حرفاً كانَ ينزعُها منها … يدخلُ اليها مع ذراتِ الاوكسجينِ … يعانقُ شبكيةَ عينيْها
مع الضوءِ الآتي … كانتْ تحاولُ ان تُغلقَ البابَ ولكنها كانتْ محاولاتٍ يائسةٍ ليسَ اكثرَ
… لا يمكنُ اعتقالُ الضوءِ … والبرقُ اكبرُ منْ انْ يوضعَ في زجاجةٍ !
على اطرافِ الاصابعِ تابعتْ خطاها بتؤدةٍ … اغلقتْ البابَ وراءَها بحذرٍ ودخلتْ الى الصفحةِ الثالثةِ
… كان عتاباً حانياً … اي رجلٍ هذا الذي لا يعرفُ الا انْ يموتَ فيها
وحينَ اختلطتْ الامورُ ولمْ يعدْ هناكَ من فارقٍ بين القتيلِ والقاتلِ فقد تساويا في الجريمةِ
كانتْ تقرأُ كلماتِهِ:
هذه رسالةٌ قلّما تتكررُ لامرأةٍيستحيلُ أن تتكررَ هي أنتِ … منذ ساعتين ِ وانا أعملُ
عليها … كدودةِ قزٍّ أقسمتْانْ تأكلَ الداليةَ كلّها أَعملُ … كنملةٍ ترى الشتاءَ قابَ قوسينِ
أو ادنى أعملُ … كإبرِ صوفٍ جدتِي وهي في سباقٍ مع الشتاءِ أعملُ … منذ
ساعتينِ وأنا أحاولُ أنْاجدَ كلماتٍ تليقُ بجمالِ عينيكِ وبمستوى جنوني بكِ ولكني فشلتُ فلماذا تصرينَ
علىأن تكونِي أكبرَ من لُغتِي ؟!
منذ ساعتينِ وانا أُحاولُ أن امزجَ الحبَّ بالعتبِ … كم هوَ قلبي كبيرٌ لكِ وكم
هو وقتكِ ضيّقٌعليَّ … كم هو باردٌ الكونَ حين لا تكونينَ معي .. أَجزُمُ أنهم
أخطأوا بحسابِالفصولِ حين تجاهلُوا أنكِ حين تبتسمين يأتي الربيعُ … ابتسامةُ شفتيكِ هي التيتعطي الياسمينَ
شرعيتَهُ … هي التي تهِبُ زهرَ اللوزِ بياضَهُ وزهرَ الليمونِ حضورَهُ … وأنكِ حين تحزنينَ
تمطرُ السماءُ فما المطرُ الا صدى الدموعِ على خديكِ … وأنكِحينَ تهمين بلقائي يأتي الصيفُ
دفعةً واحدةً … وحين تودعيني تتعرّى الاشجارُ ايذاناًبقدومِ الخريفِ !
من صفحةٍ إلى صفحةٍ قضتْ ليلتَها .. دخلتْ مسامَ الكلماتِ لتصبحَ آخر الليل حرفاً آخرَ
في أبجديتِهِ .. كم ماتتْ انتظاراً لحبٍّ ظنَّتْ أنَّه لن يأتيَ ـ ما أجملَ المطر
حينَ يتأخرُ ! ما أجملَهُ حينَ يعزفُ على أوتارِ الروحِ قطرةً قطرةً يمتصُّ الأرضَ العطشَى
بدلَ أنْ تمتصَهُ وكأرضٍ عطشى شربتْها كلماتُهُ….
أغلقتْ دفترَهُ ووضعتْ رأسَها على وسادتِها وضمّتْ الدفترَ إلى صدرِها بكلِّ ما فيها من جوعٍ
وانتظارٍ لحبٍّ تاخّرَ كثيراً في المجيءِ … ولكنّ النساءَ يعرفنَ أنَّ الحبَّ الحقيقيَ كالموتِ مهما
هربنَ منهُ فإنهُ آتٍ مهما طالَ النشيدُ … الحبّ الحقيقيُّ ليسَ لهُ عنوانٌ ، أو
صندوقُ بريدٍ ، أو ملامحُ وجهٍ ، أو نبرةُ صوتٍ ، أو موعدُ مجيءٍ …
ولكنهُ حين يأتي نستسلمُ لهُ بسكينةِ الروحِ حينَ تستسلمُ للموتِ!
وقبلَ أن تستسلمَ للرقادِ كانتْ تسترجعُ طيفَ الكلماتِ ولكنها كانتْ تشعرُ أنها بحاجةٍ إلى النسيانِ
لا إلى التذكرِ ! غيرَ أن بعضَ الرجالِ يسكنونَ ذاكرةَ المرأةِ التي تحبُّهم كوشمٍ لا
تستطيعُ منهُ خلاصاً..
وحينَ استيقظتْ صباحاً قررتْ أن تفتحَ نافذةَ القلبِ للمطرِ مرةً أُخرى ليغمرَ الرذاذُ أطرافَ القلبِ..
كلَّ ثانيةٍ وانتَ حبيبي
كلَّ ثانيةٍ والأسودُ في عينيك يأممُني
يشبهُك الزيتونُ والغاباتُ خصلةٌ من شعرِكِ
اقتليني من الحبِّ فقط مرضتُ بكِ
والعمرُ المتبقي لا يتسعُ لأشفيَ نفسي منكِ
فشعرتْ بعدَها كأنّها خارجةٌ من حمامِ بخارِ الكلماتِ وأحسّتْ أن شعرَها يقطرُ أبجديةً.
غادرتْ سريرَها بسرعةٍ .. قامتْ بطقوسِها الرتيبةِ التي تمارسُها كلّ يومٍ ومضتْ إلى فخِّ الحبِّ
في عينيْهِ..
وكان هو طيلةِ اللّيلِ يعرفُ بغريزةِ من دفنَ روحَهُ بينَ المفرداتِ أنّها تقرأُ … وكانَ
يحسدُ الكلماتِ لأنّها مضتْ إلى مرقدِها الأخيرِ في عينيْها … ما أشهى أن يعرفَ من
كتبَ المفرداتِ أنّها ذاهبةٌ إلى صندوقِ البريدِ الذي تمنّى طويلاً أن تصلَ إليهِ.. كانتْ هذه
أسعدُ لحظاتِ حياتِهِ مذْ سقطَ بالضربةِ القاضيةِ بكحلِ عينيْها .. كمْ كانتْ أنانيةً كلماتُهُ إذ
مضتْ إلى عينيْها دونَ أن تصطحبَهُ..
نفضَ عنه ُكسلَهُ الصباحيِّ اللذيذِ ومشى إلى قنبلتِهِ الموقوتِةِ التي تسكنُ صوتَها.
بتحيّةِ الصباحِ الرتيبةِ بدأّ اللُّقاء ثمَّ خيّم الصمتُ .
اقتاتَ كلٌّ منهما ما أمكنَهُ من وجهِ الآخرِ ثمَّ سحرَها صمتُهُ وأغراها بالبوحِ .
ـ سحرتْني كلماتُكِ
ـ لم تكنْ كلماتي سوى هلوسةِ مسحورٍ مرّ يوماً بعينيكِ
تورّدَ خدّاها خجلاً وقبلَ أن تستعيدَ لذّةَ الصمتِ مرةً أخرى قال لها : أحبّكِ…
تحولتْ وقتذاك إلى قوسِ قزحٍ وتناوبتْ بشرتُها على سرقةِ ألوانِهِ وبصوتٍ خافتٍ تعجزُ الأذنُ عن
التقاطِ ذبذباتِهِ همستْ لهُ :
وأنا أحبّكَ
ثمّ تعانقتْ العينانِ عناقَهما الأولَ بعد أن عرّى هذا البوح نظراتِهما المتبادلةِ من وشاحِ التردّدِ
!
شعرتْ أن الكرةَ الأرضيةَ ضيفةً عليها وانّ ثوبَ فرحتِها سيبدو فضفاضاً ولو لبسهُ الكونُ كلّهُ..
وشعرَ هو أنَّ الكحلَ في عينيْها أعطى كلماتِهِ شرعيةَ البوحِ وأخرجَ حروفَهُ من شرنقةِ عزلتِها
وأنه صارَ من الآن فصاعداً بإمكانِهِ أن يغازلَ المجرّةَ…
فقبلَ أن تباركَ حياتَهُ بهذهِ الحروفِ الأربعةِ ( أ ـ ح ـ ب ـ ك
) كانتْ كلماتُهُ صراخاً لا يتجاوزُ حدودَ الشفتينِ أمّا وقد قالتْها فقد صارَ بإمكانِ المفرداتِ
امتطاءَ زرقةِ البحرِ … صارَ بإماكانِها أنْ تعانقَ شجرَ الأرصفةِ .. أن تحملَ المطرَ وتنثرَهُ
زخّةً هنا وزخّةً هناك..
غريبٌ كيف تحوِّلُ كلمةٌ واحدةٌ تقولُها امرأةٌ رجلاً من كائنٍ ترابيٍّ طولُهُ مئة وثمانون سنتمتراً
إلى كوكبٍ عملاقٍ تدور في فلكِهِ الكواكبُ الأخرى..
كلمةُ أحبّكَ التي قالتها نفخت فيه الرّوحَ بعدَ أنْ كانَتْ كلُّ نظرةٍ في عينيْهَا دعوةً
مغريةً للموتِ..
وافترقَا دونَ أن يعرفَ أيٌّ منهما عددَ الدقائقِ التي امضياها في الاعترافِ .. بعض الدقائق
لا نلتفتُ لطولِهَا فإنَّ عرضَ الأحداثِ فيها يجعلُها ً محطةً لا تُنسَى من محطات حياتنا
.. دقائق قليلةٌ كانت كفيلةً لتصحح مسارَ سنواتٍ من الموتِ انتظاراً ولترسمَ ملامحَ سنواتٍ ستأتي
معطرةً برائحة القرنفل ومخضبة بلون وردي لشيء اسمه الحبّ!
وافترقا بعد ذلك كثيراً لأنهما التقيا كثيراً…
وفي كلِّ مرَّةٍ كانَا يلتقيانِ ويفترقانِ كان يعودُ إلى دفترِهِ ليكتبَ كلماتٍ وُلدَتْ من رحمِ
الكحلِ في عينيْها .. كان كحلُهَا موتَهُ وكانت نظراتُها تسجيه وحين ترمشُ يشعرُ بأنّ كفناً
أُلقِيَ عليهِ وغيّبَهُ …
وحينَ يفرغُ من الكلماتِ كانَ يشتهي العودةَ إليهَا فلقدَ عرفتْ كيف تربطُهُ بالحبلِ السّرّيِّ وتشدُّهُ
إلى صرّتِها..
وحينَ كان تفارقُهُ كان يسكنُها حمّى امرأةٍ تريدُ أن تعرفَ ماذا فعلَ رجلًها في غيابِها..
كانت تسترجعُ لقاءها كلَّهُ .. لحظةً لحظةً تعيدُ شريطَ الذاكرةِ وتوقفُهُ على أحبِّ اللحظاتِ إلى
قلبِها…
ـ كيف حالُكَ ـ مسكونٌ بصدى ضحتكِ ككلّ يوم ـ أعتذرُ لقدْ تأخَّرْتُ سبعَ دقائقَ
ـ كم هي موحشةٌ الدقائقُ بدونك ـ ماذا فعلتَ اليومَ ـ كنتُ أعدُّ اللحظاتِ لحين
ألقاكِ ـ صوتُكِ كانَ حزيناً البارحةَ ـ كلُّ خلايايَ تكونُ حزينةً حينَ أبتعدُ عنكِ ـ
كمْ أُحبُّكَ ـ أنا أحبَّكِ أكثر ـ أفكِّرُ في قصِّ شعرِي ـ إيَّاكِ أنْ تقتربي
من أشيائي ـ ماذا كتبتَ البارحةَ
سعيدٌ أنا بدونكِ ارتشفْتُ قهوتِي المرّةَ بسعادةٍ غامرةٍ تخيّلي لم أنتبهْ لغيابِكِ كتبتُ قصيدةً أيضاً
نسيتُ أن أجعلكِ فيها ـ يا لخيانتِي عثرْتُ بينَ دفاترِي على وردةٍ حمراءَ ولكنْ لم
أتذكرْ بأنّكَ من علّمني تجفيفَ الوردِ هلْ صدّقْتِ حقّاً كلّ ما وردَ من كذبٍ أعْلاه
ـ مجنونٌ أنتَ ـ مجنونٌ بكِ
كانتْ ذاكرتُها تعملُ كحجرِ رحىً لا يتوقفُ كلّما وصلَ إلى نقطةِ البدايةِ بدأت دورةٌ أخرى
من دورانِ الذاكرةِ المشحونةِ برائتحِهِ … بصوْتِهِ … بكلماتِهِ … بلونِ عينيْهِ ….
وكانا بأعماقِهِما يعرفانِ أنّ شيئاً ما سيحدثُ فهذا القَدْرُ من التوحّدِ في الآخرِ كان شيئاً
غريباً على قلبينِ اعتادا على الخفقانِ بتؤدةٍ وعلى ضخِّ الدّمِ بسكينةٍ ، فالقلبُ بغيرِ الحبِّ
ليسَ سوى عضلةً تُزوّدُ الخلايا الأخرى بالدّمِ المشبَّعِ بالأوكسجينِ لِتُجبرَها على التّنفسِ.
هذا الحبُّ كان شيئاً غريباً على أجسادٍ لمْ تعرفْ من قبلُ أنّ النظراتِ بإمكانِها أنْ
تشطرَ
يتبع …..